مدير المدرسة يستدعيني في مكتبه:
أستاذ راشد!
:هذه السنة جدولك سيكون في الصفين الثاني الأدبي والثالث الأدبي!
مفاجأة لم أحسب حسابها!
فأنا لازلت شابا صغيرا
عمري لم يتجاوز الرابعة والعشرين بعد!
حاولت معه ليتركني أستمر في تدريس الصف الأول لكن هيهات!
خرجت من عنده وأنا أتذكر مايردده بعض الزملاء عن طلاب الأدبي:( فهم الأسوء وهم كبار السن الذين لايرغبون في شيء اسمه دراسة!)
حتى أن أحد الزملاء كان يقول :
إنهم المتردية والنطيحة وما أكل السبع!
صورة ذهنية مرعبة
وصورة حقيقية لاتقل رعبا
فبعضهم أكبر مني سنا!
مشاعري الآن لاتوصف! فهي مزيج
من التوتروالخوف !
عشت ساعات في قلق ماذا أفعل!
لم يتبق على بداية العام إلا أقل من أسبوعين
ذهبت إلى المستودع أخذت
كتب هذين الصفين!
قرأتها حتى حفظت كل مافيها!
لا لا هذه لاتكفي توجهت إلى مكتبة الرشد
اشتريت كتبا ومراجع لكل مايتعلق بالمواد التي سوف أدرسها
ولاسيما كتب التحليل الأدبي
وشروحات ديوان المتنبي وأبي تمام و٠٠
غدا أول أيام العام الدراسي٠٠٠
وأنا أردد بيت امرئ القيس:
ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي
وكعادة الشعراء يشكون جراحهم في الليل
ففيه الهدوء لبكائهم ونثر آلامهم وأوجاعهم!
أما أنا فكنت انتظر الصباح لأرى
هل أنجح مع هؤلاء الطلاب وأكسب قلوبهم
رن الجرس معلنا عن بداية الحصة الثانية
نعم أتذكر تلك الحصة بكل تفاصيلها!
اتجهت للصف الثاني الأدبي
دخلت الفصل بكل هدوء
عرفتهم بنفسي وبالمواد الكثيرة التي سوف
أدرسها لهم٠٠٠
طلبت أن يعرفنا كل طالب باسمه٠٠
التفت إلى السبورة
كتبت المادة: أدب
الدرس: تاريخ الأدب العباسي
ذلك الدرس الذي حفظته عن ظهر قلب
وحفظت الكثير من قصائده وماقيل عنها!
وبينما أنا أكتب على السبورة عنوان الدرس
فإذا بي اسمع انفجار مدوي داخل الفصل!
مفاجأة مرعبة!
أحد الطلاب رمى لالا بل قذف علبة عصير( الربيع) بكل قوة باتجاه السبورة!
آثار العصير أصابت جزءا من ثوبي!
مفاجأة وأية مفاجأة!
لكني حسبت حسابها قبل حدوثها
والحمدلله أنها حدثت في بداية العام!
التفت إلى الطلاب
كأن على رؤوسهم الطير٠٠٠
صمت رهيب يخيم على الفصل٠٠٠
بحسبة بسيطة عرفت أن الذي رمى علبة العصير يجلس في الخلف!
لم أتكلم لمدة دقيقة !
بعدها انطلقت قائلا:
أنا أستطيع أن أخبر الإدارة
وهم يخرجون الطالب فيعاقبوه٠٠٠
لكني متأكد أن الطالب الذي رمى علبة العصيركان يقصد
أن يضعها في سلة المهملات!
( كانت السلة أسفل السبورة)
والذي أنا متأكد منه أكثر:
أن الطالب الذي رمى علبة العصير رجل!
وأنه سيكون من أحسن الطلاب أدبا وعلما!
وأنه سيلحق بي بعد نهاية الدرس ويعتذر
لأني سامحته!
أحسست بأني انتصرت٠لكن ماذا بشأن بقية
طلاب الفصل الذي رأيت في أعين بعضهم
الخبثوفي أعين بعضهم الآخر الشفقة علي!
قلت لهم: هل أخطأت على أحد منكم؟
أريد أن أكسبهم في صفي!
إن كنت أخطأت على أحد منكم فأنا أستحق هذا وأكثر٠٠٠
أنا سأدرسكم خمس مواد
أنا سأقف معكم سأساعدكم سأكون صديق لكمإذا قبلتم صداقتي٠٠٠
صدقوني يالأدبي: أنتم مظلومون!
أنتم من أحسن الطلاب وأفضلهم
هل تعلمون أن أكثر الوزراء هم من خريجي الأدبي!
وكبار مسؤولي الدولة هم من خريجي الأدبي!
بعدهاألقيت عليهم مقطوعات شعرية
فيها النخوة وأخلاق الفرسان
أذكر منها قصيدة المقنع الكندي ألقيتها كاملة
بإلقاء هز مشاعرهم وتغيرت تعبيرات وجههم!
حتى رأيت الأسف والندم في أعينهم
مشوبا بإعجاب بهذا الأستاذ الجديد!
وبدون أن أشعر بالوقت رن الجرس
شكرتهم على حسن استماعهم٠٠٠
وأكدت لهم أني معهم ٠٠٠
خرجت من الفصل توجهت إلى مكتبة المدرسة
حيث يوجد مكتبي ٠٠
ماشعرت إلا وأحد الطلاب يلحق بي قبل دخولي المكتبة وهو في قمة الحرج والحياء:
أستاذ أنا آسف! عرفته!
إنه الذي رمى علبة العصير!
قلت له تعال معي ،دخلنا المكتبة سويا
قلت له :تفضل اجلس. بكى
!ذلك الطالب المراهق ( الفتوة) الذي طالما أزعج المدرسة والمدرسين يبكي!
نعم رأيته يمسح دموعه التي تنبع من بحر عميق بمشكلات شاب مراهق لم تجد من يحتويها!
قدمت له الشاهي فلم يصدق أن مدرس يصب له الشاهي!
أخذ رأسي وقبله٠٠٠دار حوار طويل معه
عززت الثقة بنفسه قلت له ستكون من
أحسن الطلاب ٠٠٠٠ فعلا تغير هذا الطالب كثيرا فلا يراني إلا ويسلم مخفضا رأسه حياءا واحتراما٠٠
وأصبح يبذلا جهدا في دراسته ومشاركته أثناء الدرس٠
حتى المعلمين صاروا يتباشرون
الطالب (الفتوة) صار من أحسن الطلاب
خصوصا أنه كان معيدا في الصف الأول!
وأحدهم يردد: سبحان مغير الأحوال!
وتمر السنون ويتخرج من الثانوية
ًيزوروني في بيتي ٠٠٠
يلتحق بكلية الملك خالد العسكرية يتخرج ضابطا٠٠٠
يستمر تواصله بي ،يقدم دعوته لي
لحضور زواجه حضرت وباركت له٠٠٠
أصر على دعوته لي في بيته
كان أبوه وإخوانه وبعض زملائه
في المجلس
ذكر قصة علبة العصير كاملة
أحرجني بكرمه ووفائه
وشكرته على حلاوة أخلاقه
بعد العصير طبعا
سمعت دعوات والده!
أخوكم : راشد الشعلان
اخترتها لكم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق